26 - 09 - 2024

وجهة نظري | شقة في العاصمة الإدارية

وجهة نظري | شقة في العاصمة الإدارية

جاءنى صوته محملا بود مصطنع متكلف تفرضه دوما طبيعة عمله كمسوق عقارى .. اختار كلماته بدقة مجملا إياها بكل كلمات الترحيب ليختتمها بعرضه الذى جاهد أن يكون مبهرا محاولا شحذ كل الأحلام المخبأة المنسية لتبحر مع طيف لحياة رغدة مريحة تداعب خيالات الكثيرين لكننى للأسف لست منهم.

لم أنتبه لتفاصيل ماقاله لكنى توقفت فجأة عندما عرفت أن الغرض من تلك المكالمة المفاجئة هي الترويج لشراء شقق في العاصمة الإدارية الجديدة !!

- أنا مينفعش خالص!

هكذا جاء رد فعلى تلقائيا غريبا أصابه بالصدمة والضحك في آن واحد .. لم يجد كلمات مناسبة للتعير عن دهشته ، لم تسعفه العبارات فاكتفى بجملة واحدة: "ليه بس؟"!!

لم تكن حيرتى أقل قدرا من تلك الحيرة التي ألجمته .. تدافعت التساؤلات رغما عنى .. من أين أتى برقم هاتفى المحمول؟! كيف وقع اختياره عليّ؟! من الذى رشح اسمى لأكون أحد المبشرين في الحياة بجنة العاصمة الإدارية الجديدة؟! هل اطلع على كشف حسابى في البنك ومفردات مرتبي؟! لماذا لم يجهد نفسه قليلا ليتحرى الدقة في اختياراته , وآثر إستسهال اللهاث وراء شائعة ثراء الصحفيين؟! وهل دفعه خياله لتصور أن أمثالى على قدر من الثراء ويصل دخله للملايين مثل متصدرى برامج التوك شو العازفين على نغمة التأييد والترويج والتطبيل لكل صاحب قرار؟!

من المؤكد أن تلك الأسئلة لم تدر ولو للحظة في ذهنه .. ويقينى أن طبيعة عمله لاتحتاج للبحث عن تلك التساؤلات، فهدفه لاينصب سوى على شيء واحد ..اللعب على أوتار الحلم ومداعبة الخيال ومحاولة إقناع العميل ، بكل الطرق ، بالكنز الذى سيحصل عليه لو استجاب لعرضه ، والحياة الرغدة التي تنتظره لو اقتنع بما يروجه ودفعه لإتخاذ خطوات جادة لتحقيق هذا الحلم الذى أتقن في مداعبة خياله به .. والإسراع بكل ما أوتى من قوة لتدبير المال المناسب ودفعه لإخراج "ما تحت البلاطة" لضمان انتهاز الفرصة قبل أن تضيع ويتبخر الحلم ويحرم من الجنة الموعودة.

كأننى مثل ملايين لم تداعب خيالى تلك الأحلام ، لم تجذبنا أحاديثهم التي يتفننون بكل الطرق لإبهارنا بها ، مستخدمين كعادتهم كل أفعل التفضيل الضخمة .. أعظم برج أيقوني ، أطول ناطحة سحاب ، أكبر مسجد ، أفخم كنيسة ، أكبر ملاهى وأضخم مولات ، أجمل نهر أخضر ، أكبر مجمع ثقافى ..

حياة ثرية رغدة مريحة ، من منا لايحلم بها ، لكن دوما لأحلامنا حدود يفرضها واقعنا المأزوم دوما بتدبير أبسط الاحتياجات .. اللاهث وراء لقمة العيش وتعليم الأولاد وتوفير أقصى ما يمكن لإشباع احتياجاتهم الأساسية .. وتلك مهمة عظيمة وشاقة لو علم أصحاب القرار تفاصيلها وقدر عبئها لصمتوا وكفوا عن الاستمرار في بذخ الإنفاق على مشاريع لاتحقق سوى أحلام الأثرياء بل فاحشى الثراء.

كيف يحلم الملايين بتلك الحياة الرغدة ، وأيديهم القصيرة تدبر بالكاد قوت يومها ، في ظل غلاء لايرحم وينهش بأنيابه المستعرة المتزايدة شراستها يوما بعد يوم .. فى ظل أسعار تتقافز يوميا دون خجل لدرجة دفعت التجار لعمل قوائم يومية بالأسعار الجديدة بعدما عجزوا عن ملاحقتها كما أخبرنى أحدهم ، بعدما أبديت إنزعاجى من عدم ثبات الأسعار وارتفاعها كل يوم بلا توقف ..

الله يكون في عون الشعب ، نسمعها دوما من التجار معبرين عن انزعاجهم من الغلاء ، مؤكدين أنهم بدورهم الخاسرين من ذلك الغلاء الذى لايحقق لهم ثراء كما يظن البعض .. فالقوة الشرائية يصيبها ارتفاع الأسعار في مقتل ، بعدما يضطر الكثيرون للتنازل عن كثير من احتياجات كانت في نظرهم أساسية ، ليكتفوا باقل القليل المتناسب مع دخولهم الشحيحة ..

هل يمكن لهؤلاء أن تداعب أحلامهم تلك الحياة الثرية المنتظرة للموعودين من سكان العاصمة الجديدة .. هل يمكن أن يتحملوا الملايين للحصول على شقة يتراوح سعر المتر فيها ما بين تسعة وعشرة آلاف جنيه .. من أين لهم بتلك الملايين التي تتراوح مابين إثنين وخمسة ملايين حتى لو كانت على أقساط ، فحياة هؤلاء لا تتحمل مزيدا من الأقساط بعدما باتت كل احتياجاتهم الأساسية لاتتحقق إلا على أقساط ..

جنة الحلم الموعود بعيدة عن البسطاء ، حتى أولئك الموعودين بها من الموظفين الذين وقع عليهم الاختيار للعمل في العاصمة الجديدة عجزوا عن تحقيق هذا الحلم .. فوجدوا أنفسهم أمام إختيارين إما الحصول على بدل الانتقال ، أو الحياة في مدينة بدر بعدما خصصت بها الحكومة آلاف الوحدات السكنية لهم بإعتبارها أقرب المدن لمكان عملهم بالعاصمة الجديدة .. مقابل مقدم يصل على 35 ألف جنيه وتيسيرات في سداد الأقساط ودعم من الحكومة في تحمل جزء من تكاليف الوحدة التي يترواح سعرها مابين 450 و480 ألف جنيه.

ربما يكون الحلم مبهرا ، لكن واقع الملايين يفرض عليهم عدم الشطط ويشدهم دوما بقيوده الشرسة لتتقزم أحلامهم البسيطة ، ومع ذلك ترهقهم يوما بعد آخر ، وتصبح في نظرهم دوما عصية على التحقق .. كان الله في عوننا جميعا .. وعذرا لكل  مسوق عقارى يخطيء في اختيار العميل ، ويسرف فى حسن الظن بحالة الملايين الشقيانة.
-----------------------------
بقلم: هالة فؤاد
من المشهد الأسبوعية

مقالات اخرى للكاتب

وجهة نظري | الاستغناء عن الحكومة